سورة الصف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصف)


        


{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصّف: 61/ 1- 9].
أخرج التّرمذي والحاكم وصححه والدارمي، عن عبد اللّه بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى اللّه لعملناه، فأنزل اللّه: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)} فقرأها علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى ختمها.
المعنى: نزّه اللّه ومجّده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله: جميع ما في السّماوات وما في الأرض، من العقلاء وغيرهم، وهو في سلطانه وقدرته القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، وفي تدبيره خلقه وتصريف أمورهم وفي أفعاله كلها.
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، لأي شيء تقولون قولا وتخالفون عملا؟ وهذا إنكار شديد على كل من وعد وعدا أو قال قولا، ثم لا يفي به.
ثم ذمّ اللّه تعالى كل من يخالف فعله قوله: لقد عظم جرما أن تقولوا قولا، وتفعلون غيره، فإن خلف الوعد دليل على حبّ الذات فقط، وإهدار مصلحة الآخرين وكرامتهم ووقتهم. وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت مذموم كذوب غير مخلص. والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة، يصنعها الممقوت.
ثم مدح اللّه تعالى الذين أقدموا على قتال عدوّهم صفّا واحدا، حيث ذكر أن اللّه يرضى عن المقاتلين المتّحدين صفا واحدا، وكتلة متراصّة لا تتزحزح من المواقع، كأنهم بناء راسخ شامخ. وهذا تأكيد لمحبة اللّه للمقاتلين صفّا. ومحبة اللّه: هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته. والمحبة: صفة فعل، وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها، والمقاتلون على غير هذه الصفة كثيرون.
ثم ذكّر اللّه تعالى بمقالة موسى وعيسى حين كذّبهما القوم، ليكون ذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون، لأن التكذيب تصادم مع الواقع.
واذكر أيها الرسول لقومك خبر موسى عليه السّلام حين قال لقومه بني إسرائيل:
يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها اللّه عليكم، أو لم تؤذونني بالشّتم والتعييب، وأنتم تعلمون يقينا صدقي فيما جئتكم به من الرسول، فلما زاغوا، أي تركوا الحقّ ولم يتبعوا نبيّهم، أمال اللّه قلوبهم عن الهدى، واللّه لا يوفّق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم، وعصوا رسلهم. فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيّركم العصيان وقول الباطل إلى مثل حالهم.
واذكر أيضا أيها النّبي لقومك خبر عيسى حين قال: يا بني إسرائيل، إني رسول اللّه إليكم بالإنجيل، لم آتكم بشيء يخالف التوراة، وإنما أؤيدها وأكملها، فكيف تعصونني؟ وإن التوراة بشّرت بي، وأنا مبشّر بمن بعدي: وهو الرسول العربي أحمد، أي أحمد الناس لربّه، وهو محمد عليه الصّلاة والسّلام، فلما جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالمعجزات والأدلّة القاطعة، قال الكفار: هذا سحر واضح لا شك فيه.
أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي (أي بعدي) وأنا العاقب».
أي الآخر الآتي بعد الأنبياء.
ولا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على اللّه، ويجعل له شركاء، وهو يدعى إلى إسلام القلب لله، وإلى التوحيد والإخلاص، واللّه لا يرشد للحق والصواب القوم الكافرين الظالمي أنفسهم بالكفر.
إن الكفار يريدون أو يحاولون إبطال دعوة الإسلام، ومنع هدايته، ومقاومة دعوته، واللّه مظهر دين الإسلام في الآفاق، ولو كره الكافرون ذلك.
إن اللّه هو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالهدى التّام، ودين الحقّ الناصع، المتمثّل بالقرآن والسّنة، ليجعله متفوقا على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك، فإنه كائن لا محالة وهذا تأكيد لأمر الرسالة ومؤازرتها.
حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ اللّه نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا} واتّصل الوحي بعدها.
وإنما قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} أولا ليتناسب مع كلمة (النّور) فالكفر أعم من الشرك، والنّور أعم من الدين والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
التجارة الناجحة:
إن سبيل الفلاح والنجاح هو في اتّباع شرع اللّه ودينه، ولا نجد أحدا يعرض عن تعاليم اللّه تعالى إلا كان خاسرا خائبا، لأنه ورّط نفسه في المهالك والعقاب الأليم.
وحينئذ تكون التجارة الرابحة: هي في إعلان الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله بالمال والنفس، لتحقيق العزّة والانتصار، والظفر بالسعادة، وتكون مناصرة دين اللّه والحق صمام أمان من الضياع، وتحقيق النجاة، كما ناصر الحواريون نبيّهم عيسى ابن مريم رسول اللّه عليه السّلام، فيما تقرّره الآيات الآتية:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)} [الصّف: 61/ 10- 14].
أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحبّ إلى اللّه وأفضل؟ فنزلت: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ...} الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)} يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة؟! وهذا أسلوب فيه ترغيب وتشويق، والمراد بالتجارة هنا العمل الصالح، ونوع التجارة:
هي أن تواظبوا على الإيمان بالله ورسوله، وتخلصوا العمل لله، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة اللّه ونشر دينه بالأنفس والأموال، والأموال مقدمة للإعداد الحربي، لبدء الاستعداد بها.
وكلمة {خَيْرٌ} إما للتفضيل أي خير من كل عمل، أو إخبار أن هذا خير في ذاته ونفسه.
ذلكم المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم، ومن أنواع التجارات في الدنيا والعناية بها وحدها، إن كنتم تعلمون الحقائق والغايات.
وثمرة الإيمان والجهاد هي: إن فعلتم ما أمرتكم به والتزمتم منهاجي، غفرت لكم ذنوبكم، وأدخلتكم جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها، وفيها مساكن طيبة للنفوس، ودرجات عالية، في جنات إقامة دائمة، لا تنتهي بموت ولا بخروج منها، وذلكم المذكور من المغفرة ودخول الجنات: هو الفوز الأعظم الذي لا فوز بعده. وهذا في الآخرة.
وفي الدنيا تتحقق لكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم: هي نصر مبين من اللّه لكم، وفتح عاجل للبلاد، كمكة وغيرها من بلاد فارس والروم، أي إن قاتلتم في سبيل اللّه، ونصرتم دينه، تكفّل اللّه بنصركم. وبشّر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ثم أمر اللّه أو ندب إلى النصرة، فيا أيها المؤمنون كونوا على ما أنتم عليه من نصرة دين اللّه وتأييد شرعه ورسوله، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال، والأنفس والأموال، واستجيبوا لدين اللّه ورسوله، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح عليه السّلام وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم: من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى اللّه؟ فقال الحواريون: نحن أنصار دين اللّه، ومؤيدوك فيما أرسلت به، فبعثهم اللّه مبشّرين ودعاة إلى دينه في أنحاء بلاد الشام.
فلما بلّغ عيسى عليه السّلام رسالة ربّه إلى قومه، وآزره الحواريون، اهتدت طائفة (جماعة) من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق، وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه: عبد اللّه ورسوله، وضلّت طائفة أخرى، وكفرت بعيسى، وجحدوا نبوته، واتّهموه وأمّه بالفاحشة، وهما منها بريئان براءة مطلقة.
فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى، وقوّينا أهل الحق منهم بالحجة والتأييد من عندنا على المبطلين، فأصبحوا غالبين عليهم.
وإيراد هذا المثل واضح التأثير، فإن القلة المتمسكة بالحق، الناصرة لدين اللّه وشرعه، تصبح عما قريب هي صاحبة القوة والمجد، وكما تحقق ذلك في التاريخ المسيحي قبل الإسلام، تحقق كما هو معروف في التاريخ الإسلامي بعد نزول القرآن، ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وذلك في مختلف الأنحاء، في داخل الجزيرة العربية حيث تطهرت من الشرك والوثنية، وفي خارجها حيث دحرت قوى مملكتين عظيمتين، وهما فارس والروم، وحلّت محلهما القوة المسلمة الجديدة التي تنشد الخير والسعادة والنجاة للعالم أجمع.